ترامب يهدد زيلينسكي- صراع السلطة والفوضى السياسية في أوكرانيا.

في الثامن والعشرين من فبراير/ شباط عام 2025، شهدت أروقة السياسة لقاءً بالغ الأهمية جمع بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الأميركي دونالد ترامب، وذلك في محاولة حثيثة من الأول لإقناع الولايات المتحدة بالاستمرار في تقديم الدعم الحيوي لأوكرانيا. إلا أن هذا الاجتماع، على ما يبدو، لم يسِرْ وفقًا للتوقعات التي رسمها زيلينسكي، حيث اتخذ منحىً مغايرًا لما كان يأمله.
أمام أنظار العالم وعدسات الكاميرات، انبرى ترامب ونائبه جي دي فانس لتوجيه انتقادات لاذعة إلى زيلينسكي، متهمين إياه بـ"قلّة الاحترام" وعدم الاكتراث، فضلاً عن رفضه تبنّي المبادرة التي طرحاها لوقف إطلاق النار مع روسيا.
يتضح جليًا أن زيلينسكي لن يكرر زيارته إلى واشنطن في ظل ولاية ترامب الرئاسية. كما يتضح بجلاء أن الضغوط الأميركية على أوكرانيا ستتصاعد وتيرتها بشكل ملحوظ خلال الأسابيع والأشهر القادمة، في ظل سعي ترامب الحثيث لممارسة الضغط على كييف، وإرغامها على تقديم تنازلات جوهرية لموسكو مقابل إحلال السلام المنشود.
وحتى قبل هذا اللقاء المحتدم في البيت الأبيض، كانت إدارة ترامب تتشكك في شرعية زيلينسكي، وتسعى جاهدة للدفع باتجاه إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. لكن تنظيم انتخابات متسرعة، بهدف وحيد هو الإطاحة بالرئيس الحالي، قد يكون له عواقب وخيمة على البلاد، ويزج بها في أتون الفوضى.
تراجع شعبية زيلينسكي والمرشّحون المحتملون
قبل الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، لم يكن الرصيد الشعبي الذي يحظى به زيلينسكي يتجاوز حاجز الـ 28%، بينما لم تتخط شعبية حزبه عتبة الـ 11%. بيدَ أن الحرب المستعرة دفعت الأوكرانيين إلى الاصطفاف حول رئيسهم، مما أدى إلى ارتفاع شعبيته إلى مستويات غير مسبوقة.
ومع ذلك، شهدت هذه الشعبية انتكاسة وتراجعًا مستمرًا على مدى العامين الماضيين. ووفقًا لاستطلاعات الرأي الموثوقة، انخفضت الثقة بزيلينسكي من 54% في أبريل/نيسان 2024 إلى 49% في يناير/كانون الثاني المنصرم، وإن كان ذلك لا يرقى إلى المستوى الذي يدّعيه ترامب، إلا أنه يبتعد كثيرًا عن نسبة التأييد الساحقة التي بلغت 90% في مايو/أيار 2022.
تعدّدت الأسباب والدوافع التي أدّت إلى تآكل شعبيته، من بينها استفحال الفساد في إدارته وتفشيه، والإرهاق الشعبي المتنامي نتيجة استمرار الحرب وتداعياتها. ومن الجليّ أن زيلينسكي يدرك تمام الإدراك مدى هشاشته السياسية، وهو ما يجعله قلقًا وغير مرتاح لفكرة المنافسة الانتخابية الشرسة.
فهو يعلم علم اليقين أن خسارته في أي انتخابات مقبلة قد تعني ملاحقته قضائيًا بتهم الفساد المزعومة، أو تعرّضه لأشكال مختلفة من الانتقام السياسي من خصومه المتربصين. وتشير استطلاعات الرأي بشكل قاطع إلى أنه، إذا أجريت الانتخابات في الوقت الراهن، فإنه سيمنى بهزيمة محققة.
يُعد فاليري زالوجني، الجنرال ذو الأربع نجوم، الذي شغل منصب القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية حتى شهر فبراير/شباط 2024، أحد أبرز المنافسين المحتملين لزيلينسكي على سدة الرئاسة.
وتُظهر استطلاعات الرأي أن زالوجني، في حال ترشّحه، سيتفوق بجدارة على زيلينسكي. إذ تحظى شخصيته بثقة شعبية واسعة، حيث بلغت نسبة تأييده 72% في يناير/كانون الثاني الماضي.
وعلى الرغم من أن زيلينسكي أقال زالوجني عقب فشل الهجوم المضاد الأوكراني عام 2023، فإن هناك تكهنات واسعة النطاق بأن شعبيته المتزايدة ربما كانت أحد الأسباب الرئيسية وراء إقصائه من منصبه الرفيع.
وقد تم إرساله إلى الخارج ليشغل منصب سفير أوكرانيا لدى المملكة المتحدة، وهو المنصب الذي لا يزال يشغله حتى الآن. وحتى هذه اللحظة، لم يعلن زالوجني عن نيّته الترشح للرئاسة، لكن لا يوجد ما يضمن أنه لن يغيّر موقفه لاحقًا، ويدخل المعترك السياسي بقوة.
في حال قرر زالوجني عدم الترشّح، فقد يبرز مرشحون عسكريون آخرون يتمتعون بشعبية كبيرة، مثل كيريلو بودانوف، رئيس الاستخبارات الأوكرانية، الذي يحظى بنسبة ثقة شعبية تبلغ 62%.
لكن بودانوف اختفى عن الأنظار مؤخرًا بعد عام من الظهور الإعلامي المكثف، وسط شائعات قوية بأن مكتب زيلينسكي يخطط لعزله من منصبه، ما دفعه إلى التواري فجأة. ومع ذلك، قد يعاود الظهور مع اقتراب موعد الانتخابات، ويشعل المنافسة الانتخابية.
أما أوليكساندر أوسيك، بطل الملاكمة العالمي الشهير، فقد يكون "الحصان الأسود" الذي يقلب موازين السباق الرئاسي. وفي بلد صعد فيه ممثل كوميدي إلى سدة الحكم، فإن احتمال دخول رياضي ناجح إلى الحلبة السياسية لا يبدو مستبعدًا على الإطلاق. لم يعلن أوسيك عن أي طموحات سياسية حتى الآن، لكنه بدأ يظهر في استطلاعات الرأي، حيث يتمتع بشعبية تصل إلى 60%.
يضاف إلى هؤلاء الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو، الذي وإن كانت شعبيته منخفضة، إلا أنه لا يزال منافسًا خطيرًا لزيلينسكي. فمنذ عام 2019، فُتحت ضد بوروشينكو أكثر من 130 قضية جنائية، من بينها قضية تتهمه بالخيانة العظمى؛ بسبب موافقته على مخطط لتوريد الفحم من إقليم دونباس الخاضع لسيطرة روسيا.
وهو خصم شرس لزيلينسكي ولم يُخفِ طموحاته السياسية الجامحة. وقد زار الولايات المتحدة مؤخرًا والتقى بمسؤولين من فريق ترامب. لكن في فبراير/شباط الماضي، عندما حاول حضور مؤتمر ميونخ للأمن، مُنع من السفر، وفرضت عليه السلطات الأوكرانية عقوبات بموجب مبررات "الأمن القومي"، شملت تجميد أصوله المالية.
خطر الفوضى السياسية والانتخابات المفروضة
الرسالة من العقوبات المفروضة على بوروشينكو واضحة وضوح الشمس: سيتم إقصاؤه من السباق الرئاسي قبل أن تبدأ المنافسة الفعلية. وفي ظل هذا المناخ السياسي المفعم بالاضطهاد والتضييق، يخشى مرشحون محتملون آخرون التقدّم للترشح، خوفًا من المصير نفسه.
تزايدت المخاوف والقلق بشأن تعامل زيلينسكي مع المعارضين السياسيين، لكن حتى الآن، لم تصدر إدانات قوية من حلفائه الدوليين. ومع ذلك، حصل زيلينسكي على دفعة معنوية مؤقتة بعد المواجهة في البيت الأبيض، إذ عبّر القادة الأوروبيون عن دعمهم الكامل له. ولكن يبقى السؤال الجوهري: إلى متى سيستمر هذا الدعم الأوروبي؟
إلى جانب المنافسات السياسية الحادة والانتقام السياسي، يظل المجتمع الأوكراني منقسمًا بشدّة على نفسه. فقد أجّجت الحرب المشاعر الوطنية وعمّقت الاستقطاب السياسي والاجتماعي، مما جعل البلاد ساحة صراع داخلي محتمل. فهناك التيارات القومية المتطرفة، التي يزداد تأثيرها ونفوذها بفضل مشاركتها المباشرة في الحرب، وهناك أيضًا شريحة واسعة من المجتمع لا تزال تميل نحو روسيا وترفض استمرار القتال الدائر.
وفي مثل هذا المناخ المتأزم والمضطرب، فإن فرض انتخابات من الخارج قد يكون أكثر خطورة وتدميرًا من الغزو الروسي نفسه، أو حتى خسارة المناطق الصناعية الحيوية في أوكرانيا.
فالمشكلة لا تكمن فقط في أن ثلث السكان قد يُمنعون قسرًا من التصويت، مما يضع شرعية الانتخابات برمتها على المحك، بل إن الخطر الحقيقي يكمن في احتمال انفجار صراع شامل قبل أن يُدلي أي ناخب بصوته، مما يجر البلاد إلى أتون حرب أهلية طاحنة.
رئيس يخشى خسارة الانتخابات وخسارة نفوذه، ومعارضون مصممون على استعادة النفوذ والسلطة بأي ثمن، قد يجدون في الانقسامات الاجتماعية العميقة وقودًا يؤجج نار معركتهم الشرسة. وإذا تورّط الجيش وأجهزة الأمن في هذا الصراع المحتدم، فقد تتحول الأمور إلى كارثة لا تحمد عقباها، وتدخل البلاد في دوامة من الفوضى والعنف.
لقد رأينا بأم أعيننا كيف أن الانتخابات الرئاسية يمكن أن تؤدي إلى استقطاب حاد واستياء واسع النطاق حتى في الدول المستقرة سياسيًا واجتماعيًا، كما حدث في الولايات المتحدة. فكيف سيكون الحال في بلد يعيش في أتون الحرب الطاحنة؟
إن فرض انتخابات متسرعة في أوكرانيا، خدمةً لمصالح قوة أجنبية، هو وصفة مؤكدة للفوضى والاضطرابات. لذلك، يجب ألا تُجرى الانتخابات إلا بعد التوصل إلى وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار، يسمح لجميع الأوكرانيين بالتصويت بحرية تامة، بعيدًا عن شبح الانقسام والصراع الذي يخيم على البلاد.